تشهد البلاد أزمة سيولة خانقة تفاقمت بفعل استبدال العملة، مما أدى إلى اختناقات اقتصادية واسعة النطاق، وألقى بظلاله على مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية. وفي ظل هذا الواقع، تعاني الأسواق من ركود واضح، بينما يقف المواطنون في طوابير طويلة أمام البنوك للحصول على جزء ضئيل من أموالهم، وهو مشهد أصبح مألوفًا لكنه يحمل في طياته تداعيات خطيرة على الاقتصاد والمجتمع وجودة العمل.
شح السيولة يؤثر بشكل مباشر على النشاط الاقتصادي، حيث يتسبب في تراجع القوة الشرائية وانخفاض الطلب على السلع والخدمات، مما يضعف حركة الأسواق ويهدد استمرارية المشاريع التجارية. ومع تأخير صرف الرواتب وصعوبة الحصول على النقد، تواجه القطاعات الإنتاجية صعوبات في دفع أجور العمال وشراء المواد الخام، مما يؤدي إلى تعطيل عمليات التصنيع والتجارة. كما أن تقلص القدرة التمويلية للبنوك يضعف الاستثمار، ويحد من فرص النمو الاقتصادي، مما ينعكس سلبًا على معدلات التوظيف والتنمية.
على الصعيد الاجتماعي، ازدادت الضغوط المعيشية على المواطنين، حيث بات الحصول على السيولة النقدية معاناة يومية تؤثر على قدرة الأسر على تلبية احتياجاتها الأساسية. وفي ظل صعوبة الحصول على الأموال عبر القنوات الرسمية، يلجأ البعض إلى المعاملات غير الرسمية، مثل الاقتصاد الموازي أو التعامل بالدولار والذهب، وهو ما يهدد الاستقرار المالي ويزيد من حدة الأزمة. كما أن تأخير صرف الرواتب يؤدي إلى توتر اجتماعي متزايد، حيث يجد المواطن نفسه في دوامة من الأزمات التي تبدأ بالوقوف في الطوابير لساعات طويلة وتنتهي بتأثيرات نفسية واجتماعية عميقة.
أما في بيئة العمل، فقد انعكست الأزمة بشكل خطير على جودة الأداء الوظيفي، خاصة في المؤسسات الحكومية. يضطر الموظفون إلى مغادرة مكاتبهم لساعات طويلة للوقوف في طوابير البنوك، ما يعني إهدار نصف يوم العمل على الأقل دون أي إنتاج فعلي. وبعد العودة إلى المكاتب، يكون الموظف منهكًا نفسيًا وجسديًا، مما يضعف تركيزه ويؤثر سلبًا على مستوى الخدمات التي يقدمها للمواطنين. كما أن حالة عدم الاستقرار المالي تجعل الموظف منشغلًا بتأمين احتياجاته الشخصية بدلًا من التركيز على أداء مهامه، مما يؤدي إلى تراجع كفاءة المؤسسات العامة وتأخير إنجاز المعاملات والخدمات.
لمواجهة هذه الأزمة، يجب على الجهات المعنية اتخاذ إجراءات عاجلة، بدءًا من ضخ سيولة نقدية تدريجية في الأسواق، مرورًا بتعزيز أنظمة الدفع الإلكتروني لتقليل الاعتماد على النقد، وصولًا إلى إعادة هيكلة عمليات السحب النقدي للحد من الازدحام أمام البنوك. كما أن دعم القطاعات الإنتاجية وتشجيع المعاملات غير النقدية يمكن أن يخفف الضغط على السيولة ويضمن استقرار الاقتصاد.
في النهاية، يبقى شح السيولة أزمة لا يمكن الاستهانة بها، فبينما تقف الدولة أمام تحديات اقتصادية جسيمة، يواجه المواطن معركة يومية للحصول على أمواله. وإذا لم يتم التعامل مع الأزمة بفعالية، فإن تداعياتها لن تقتصر على الاقتصاد فحسب، بل ستمتد إلى نسيج المجتمع ومستوى جودة العمل، مما يجعل من الضروري إيجاد حلول جذرية ومستدامة لإنقاذ الوضع قبل تفاقمه.