احمد بامنت
بعد ان خيم السكون علي شوارع المدينة الامنة بشرق السودان كسلا ،، جلس صديقي يسترجع ملامح الخرطوم التي هجرها قسرا ، يحدثني عن حجم الدمار والخراب الذي طال تلك الامكنة التي كنا نرتادها سويا …يتقطع صوته اثناء الحديث حتي يكاد ان يتلاشي مع ما تلاشي بداخله من امل ، وتكاد تلامس حجم القهر الذي يعلو قسمات وجه ويرسم عليه أخاديد عميقة، مايلبث وان يتدارك ،،،ليتذكر بعض الاشراقات التي مرت عليه في رحلة الالم والمعاناة فيبتسم ابتسامة خفيفة تعبر عن رفض داخلي ينزع للصمود والمجابهة والاستمرار ،،، وكانه يرفض ان يغرق في الظلام الذي ساد ارجاء مدينته التي ترقد تحت الرماد المتناثر في زوايا الوطن،ويقول ((بلهجة مغايرة تعرف ياصاحبي رغم دا الا انو البلد لسه بخير )) وعندها بدات احس بانه يحاول ان يؤقد شعلة من نوع آخر ،كان حديثه عن كل تلك الاشراقات وعن المبادرات الشبابية التي اسهب في الحديث عنها في محاولة منه للنيل من خصم يرغب في سماع صرخاته او كانني احاول ان اترجم ذلك الحديث وفق ما اهواء ولكن هذا ما يشعرك به في حديثه عن تلك القيم الإنسانية التي تتألق وسط الجراح في الوقت الذي نحسبها ويحسبها من قاموا بها جزء من واجب حتمي ينبقي القيام به او كجزء من موروث اجتماعي لأجيالٍ تربت على القصص التي تسكن بيوتها رائحة الأرض الطيبة، يصبح التشبث باغاثة الملهوف واكرام الضيف واجب وفرض لاينبقي تجاوزه مهما قست الظروف ، لتبقى قوة الروح السودانية شاهدة على جلال البقاء وكبرياء الصمود. تلك الأرواح التي يعرف بها اهل كسلا والتي ما تزال تتشبث بتلك القيم…
هؤلاء الشباب المبادرون هم صمام امان هذه الامة وهم من اشعلوا جذوة الثورة المجيدة وهم وحدهم قادرون علي حماية عوالمها الداخلية من شرور الحرب وآلامها، وهاهم الان يقدمون الملاذ الامن بصدقا ومحبة وأصالة ونبل ،فهذه الاشرقات التي يتحدث عنها صديقي وهذا التضامن الذي احسه من اهل الوريفة خفف عليه من أهوال الحروب وقسوة النزوح .
ليقول بعد لحظة صمت قصير تعرف ياخوي دا هو طريق النصر ليس بالسلاح وحده تنتصر الشعوب، بل بصلابة القيم ومتانة الروابط الإنسانية، وها هم أهل كسلا يرفضون الاستسلام كأشجار الصبار التي تنمو وسط الصحارى القاحلة، تستمر هذه النفوس في البحث عن ينبوع رحمة، تجتاز به عطش القسوة وحجارة الدمار. تجدهم، رغم المعاناة والضنك، يتقاسمون رغيف الخبز وقطرات الماء، ويجمعون ألاطفال النازحين ليخففوا عن قسوة ماكابدوا ،، ليحكو لهم حكايات الحب والخير، متشبثين بأمل أن يأتي يوم تتلاشى فيه دوي المدافع وتذوب فيه الخلافات تحت شمس الحقيقة والإنسانية.
في زمن الحرب، تصبح مثل تلك المبادرات جزء من سلاح المقاومة الرافض لكل اشكال العنف لاسيما الحروب حتي لو كانت من اجل الكرامة فالكرامة في الامن والسلام وستظلّ تلك القيم هي الجسر الذي يعبر عليه السودان نحو سلام طال انتظاره، سلام يُبنى على أيدي الأمهات اللواتي غرسن في أبنائهنّ أن حب الوطن لا ينضب، وعلى أكتاف الآباء الذين علموا أبناءهم أن القوة ليست في العنف، بل في الصبر والتكاتف والمحبة والسلام .